صرخات للغافلين:
قصة رائعة
جدتي...الأمية الفقيهة !!
عشت وأنا صغيرة لفترة مع جدتي...تلك العجوز التي لم تنل قسطا كافيا من التعليم، لكن رزقها الله بدلا من ذلك حكمة فطرية عجيبة وإيمانا عميقا..
وكانت تمر بالبيت أحيانا ظروف إقتصادية صعبة، مثلما يحدث في كثير من بيوت الناس، لأي سبب مثل ألا يستطيع خالي إرسال مال لها، ولا أدري كيف كانت تدبر أمر البيت اثناءها إلى أن تمر الأزمة بسلام..!
لكن في يوم لا أنساه، مرت جدتي بأزمة طاحنة مفاجئة لم تكن في الحسبان...حيث نزلت للسوق لتشتري بعض الحاجيات فضاع منها كيس نقودها أو سرقه أحدهم..فعادت للبيت ودخلت فورا وهي شاردة نحو دولاب الملابس لتخرج آخر ما تبقى من نقود...
ولا أنساها حين تسمرت وهي تنظر للخمسة جنيهات الباقية في البيت كله..وامسكت بها لدقيقة كاملة تنظر إليها وكأن نهر من الأفكار والحسابات المعقدة يمر بعقلها، وظهرت لأول مرة في عيني المرأة القوية دموع الحيرة والعجز..
ثم كأنها قررت حلا مفاجئا، فالتفتت إلي بحماسة وتصميم تطلب مني أن أساعدها فيما ستفعله..لكن ما طلبته كاد يصيبني بالجنون..
طلبت مني أن أنزل لشراء عشر بيضات وربع كيلو عدس...فظننت أنها ستطبخه لنا، ولكن..
أخذت تطبخ العدس في استغراق وإتقان، وتصاعدت رائحته الجميلة لتغمر البيت، وسلقت البيض، وسخنت بعض أرغفة الخبز، ووضعت بعض الملح والفلفل في ورقة صغيرة..
ثم أخذت كل هذا ، ونزلت إلى الشارع، وأعطته لبعض الفقراء في الحي ! كدت أجن..فقد نفد ما عندنا من مال، وكدت أصرخ فيها: على الأقل كنت أعطني بيضة منهم ! وكأنها قرأت ذلك في عيني المذهولة..فقالت في إيجاز وثقة كلمتين فقط (اصبري..هتشوفي) !!
رجعنا البيت قبيل العصر..ولم يكن أمامنا إلا أن ننام لبعض الوقت..
لكننا استيقظنا على صوت طرق مزعج لباب البيت، فإذا بولد ممن يبيعون في السوق يسألها
هل كيس الفلوس ده بتاعك يا حاجة)؟!!...كان سقط منها أمامه ولما حاول اللحاق بها تاهت منه في زحمة السوق، ولأنه أمين فقد سأل الباعة حوله بعد نهاية السوق عمن يعرف بيت السيدة التي مواصفاتها كذا وكذا والتي تأتينا كل أسبوع فأرشدته إحدى البائعات..
ولم تمض ساعة حتى ارتفع صوت طارق آخر...فإذا بصديق لخالي عاد من سفر ليعطينا دين عليه لخالي اقترضه قبل السفر مع هدايا وحلويات..
يومها قالت جدتي (يا بنتي...اللقمة تزيح النقمة... كل ما تضيق بيكي وتلاقي روحك مزنوقة اطعمي فقير ولا محروم)
قلت لها ضاحكة (طيب كنا نطلع حاجة ثانية أحسن من العدس) قالت ( العدس من الاكل اللى ربنا ذكره في القرآن الكريم...وكمان انا اعطيه للناس لأني أحبه...قدمي للناس من اللقمة اللي تحبيها..يقوم ربنا يحلي زادك ويفك كربك )
كبرت فيما بعد وعرفت التأصيل الشرعي لثقافة جدتي، عرفت الحديث القدسي (يا ابن آدم أنفق أنفق عليك)..وعرفت حديث الرسول عن الرجل الذي سمع صوتا في سحابة (اسق حديقة فلان)..وتعلمت قول الله تعالى (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين)..
لم تكن جدتي تحفظ هذه النصوص..لكن هذا اليقين يسري في كيانها كله...كانت في ايام الشتاء الباردة تسلق البيض وتوزعه على عساكر المرور الواقفين في الشارع..او تعمل ساندويتش فول وتعطيه لعامل النظافة..
كبرت وقرأت الكثير عن فضائل الإنفاق في سبيل الله وآثاره على العبد في الدنيا والآخرة...فاستقبلتها في يقين من عاين كل هذا بعينيه..ورأى كيف يستر الله أسرة بسيطة كبيرة العدد قليلة الرزق عبر سنوات ويعبر بهم نهر الحياة في بساطة وبركة ويسر..
تعلمت أن التعامل مع الله تجارة رابحة..وأن من تعامل مع الله عرف كرمه ولطفه ورحمته...فقط تعامل معه بيقين...
فيا رب ارحم جدتي واسترها وأكرمها بين يديك كما كنت تسترها وتكرمها في الدنيا..
وكل مَن كانَ على شاكلتها من عبادك المؤمنين